أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - الجمود العقائدي















المزيد.....


الجمود العقائدي


فؤاد النمري

الحوار المتمدن-العدد: 3651 - 2012 / 2 / 27 - 14:23
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


الجـمــود الـعقائـدي

الجمود العقائدي مفهوم ماركسي حصراً ينتفي نهائياً في سائر الإيديولوجيات المعروفة، حيث أنه لا يستخدم إلا لينفي الديالكتيك المادي الماركسي وليس أيّاً من الإيديولوجيات المعروفة لأنه الأصل فيها. فماركس كما هو معروف اكتشف قانون الحركة في الطبيعة، الديالكتيك المادي، الحركة التي لا تهدأ للحظة في مختلف موجودات الطبيعة وتتسبب بتغييرها باستمرار لدرجة يمكن معها القوال إن الشيء ليس هو ذاته في نفس اللحظة. هذا المفهوم المؤسس لكل العلم الماركسي يقتضي من يدعي بالعلم الماركسي أن يغيّر مقاربته لشروط الحياة المحيطة وفق تغير مثل هذه الشروط الذي لا يتوقف أبداً. يحدث كثيراً أن نسقاُ من الماركسيين يظل متمسكاً بمقاربات قديمة لم تعد تصلح لمقاربة شروط مستجدة فيوصف هؤلاء إذاك بالجمود العقائدي. مثل هذه الأنساق الجامدة عقائدياً لا تعود ماركسية بالطبع بل تصبح معارضة لمنهج ماركس ومن أعدائه. وغالباً ما يكون سبب هذا الجمود الرئيسي هو الترسبات الطبقية المختزنة تاريخياً في النفس بالإضافة إلى الشيخوخة التي تميل بفعل الطبيعة إلى السكون. نعود لنؤكد أن الجمود العقائدي يعرف فقط من خلال نقيضه وهو قانون الحركة في الطبيعة أو المادية الديالكتيكية الماركسية. ولذلك نقول أن مفهوم الجمود العقائدي لا يتواجد في الايديولوجيات المعروفة طالما أنها لا تناقضه بل هو الأصل فيها؛ والحكمة تقول .. الشيء يُعرف بنقيضه.

آباء الماركسية الشيوعيون حقاً ضربوا لنا أمثلة رائعة في نقضهم الحي للجمود العقائدي. فعندما رأى كارل ماركس البنيان الأساسي للنظام الرأسمالي وقد بدأ بالتكامل في منتصف القرن التاسع عشر، شرع ينشط في تشكيل اتحاد عالمي للعمال من أجل القيام بثورة اشتراكية في وقت مبكر تقطع الطريق على تواصل تطور النظام الرأسمالي وأطلق في العام 1848 مع رفيقه إنجلو نداءهما الشهير .. " يا عمال العالم اتحدوا فليس لكم ما تفقدونه إلا أغلالكم "، فكان بالفعل أن تشكلت الأممية الأولى في العام 1864. وعندما قامت البروليتاريا بالثورة في باريس 1871 واستولت على السلطة (الكومونة) برهنت بصورة فاضحة على أنها ليست بمستوى الوعي الثوري والمسؤولية اللازمين للقيام بالثورة الاشتراكية العالمية فما كان من كارل ماركس إلا أن حلّ الأممية الأولى في العام 1873 ولم يعد المحاولة مرة أخرى.

في أكتوبر 1917 انتفض البلاشفة في روسيا بقيادة لينين وأطاحوا بالحكومة البورجوازية المؤقتة من أجل تنفيذ برنامج الثورة البورجوازية التي أطاحت بالقيصرية في فبراير شباط من تلك السنة بعد أن تلكأت الحكومة البورجوازية المؤقتة في تنفيذ برنامج ثورتها. لم تقبل البورجوازية بالبلاشفة قادة لثورتها فقامت بثورة مضادة أخمدها البلاشفة في مارس آذار 1919، وبناء عليه، وبعد أن لم يبقَ على المسرح الروسي أية قوى اجتماعية منظمة سياسياً أخرى غير الشيوعيين، أعلن لينين انتفاضة أكتوبر ثورة اشتراكية عالمية تبدأ من موسكو عاصمة البروليتاريا السوفياتية المتقدمة على نظيرتها في ألمانيا وغرب أوروبا. ذاك الإعلان الخطير عن تحويل مسار تاريخ العالم هو ما استدعى أربع عشرة دولة رأسمالية أجنبية لترسل جيوشها إلى الأراضي الروسية لتخنق البلشفية في مهدها بكلمات وزير الحرب البريطاني ونستون تشيرتشل آنذاك. بعد حرب مدمرة لأكثر من عامين تمكن البلاشفة في العام 1921 من دحر جميع الجيوش الأجنبية من بلادهم. غير أن ذلك لم يتم إلا بعد تدمير معظم قوى الإنتاج الوطنبة في روسيا الأمر الذي جعل لينين يتراجع عن التطبيق الاشتراكي خطوتين إلى الخلف والسماح للبنى الرأسمالية بما في ذلك الشركات الأجنبية أن تعمل في البلاد مع تحذير الشيوعيين من الركون طويلاً للخطة الاقتصادية الجديدة (النيب) التي اقتضاها تراجع قوى الانتاج. وهكذا يصل الأمر بالماركسي الحقيقي إلى أن يتخلى عن معتقداته عندما تكون الظروف غير مؤاتية. وهذا ينفي نفياً مطلقاً أي لون من ألوان الجمود العقائدي أو المبادئ بمعناها الثابت (Adamantine).

كان موقف ستالين المعارض لتروتسكي وسياساته الخاصة المعارضة للنهج اللينيني صلباً وحاسماً، وذلك لأن تروتسكي قبل كل خلاف آخر لم يكن بولشفياً حقيقياً وكان يفصح في مناسبات مختلفة عن أنه ليس مع التحالف مع الفلاحين في حين أن الحزب الشيوعي السوفياتي كان يصر على أن يوصف بالبولشفي، والبولشفي كانت تعني تحالف العمال مع الفلاحين، التحالف الذي كان نقطة خلاف لينين مع المناشفة منذ العام 1903. نشير هنا إلى النهج الستاليني الحدي والقاطع في تطبيق البولشفية اللينينية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. لكن لدى انتهاء فترة إعادة الاعمار في العام 1950 ارتفعت أصوات بين الصفوف المتقدمة في الحزب تطالب بالاستغناء نهائيا عن كل أثر لقانون القيمة الرأسمالية في الاقتصاد الاشتراكي تمهيداً للحياة الشيوعية. إذاك عقدت ندوة موسعة حضرها قادة الحزب بمشاركة حثيثة من ستالين ونخبة من الاقتصاديين المتقدمين في مختلف الاختصاصات تحت عنوان " القضايا الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفياتي " . تميز موقف ستالين بصورة حدية وصارمة في تلك الندوة المفصلية في التقدم نحو الشيوعية، تميّز بثلاث قضايا هامة وحدّية ...
1 . محافظة الحزب على التعقل وعدم التطرف في تسعير الصراع الطبقي في المجتمع السوفياتي لما يشكله ذلك من خطورة على مستقبل الثورة الاشتراكية ـ كان ستالين ما يزال يرى خطراً داخلياً على الثورة حتى بعد قيامها بسحق الغول النازي بقدمها الفولاذية.
2 . لا يمكن الاستغناء عن قانون القيمة الرأسمالية نهائياً في التخطيط للتنمية الاشتراكية فبغير هذا القانون لا يمكن احتساب الواردات والنفقات لأعمال التنمية الاشتراكية، مع الحرص على ألاّ يؤثر ذلك على مستوى معاش المواطنين واستقراره.
3 . إنتاج الفلاحين الكولخوزيين ما زال يحتفظ بروح بورجوازية يلزم التخلص منه وإلغاؤه وذلك ليس عن طريق إلغاء طبقة الفلاحين بمرسوم فوقي كما طالب الفريق الذي يتقدمه عضو المكتب السياسي الرفيق مولوتوف، بل عن طريق زيادة حصة البروليتاريا من البضائع الاستهلاكية من أجل أن يتحول الفلاحون طوعاً إلى عمال، خاصة وأنه حان الوقت للشعوب السوفياتية أن تنعم برغد العيش بعد كل التضحيات التي قدمتها.
في مطالع العام 1952 صدر لستالين الجزء الأول من كتابه " القضايا الاقتصادية للإشتراكية في الاتحاد السوفياتي "، ومنعت عصابة خروشتشوف بعد رحيل ستالين إصدار الجزء الثاني. الكتاب يعالج مفصلاً هاماً ورئيسياً في تطور الاشتراكية السوفياتية ويشكل مرجعاً رئيسياً للدارسين لتجربة الاشتراكية السوفياتية. في أكتوبر/نوفمبر 52 عقد الحزب مؤتمره التاسع عشر بحضور ستالين وأقر خطته الخمسية المرتكزة على الصناعات الخفيفة لمضاعفة مستوى حياة العمال تحديداً، وهي الخطة التي ألغتها عصابة خروشتشوف في سبتمبر 53 لصالح إنتاج الأسلحة بصورة فظة ومخالفة للقانون ومعادية للاشتراكية. لو تم تنفيذ تلك الخطة، التي كانت ستفتح الباب عريضاً للدخول إلى الشيوعية، لتعذر على طبقة البورجوازية الوضيعة بقيادة العسكر اغتيال النظام الاشتراكي نهائياً. كما تقرر في ذلك المؤتمر إلغاء صفة البولشفي من اسم الحزب الشيوعي وهو ما يعني التوجه لتفكيك طبقة الفلاحين وإلغائها. البولشفية التي دافع عنها ستالين بقوة وحزم في العشرينيات والثلاثينيات يقرر ستالين إلغاءها في العام 1952.

من الأمثلة الثلاث أعلاه يمكن القول أن ليس للشيوعيين أية مبادئ ثابتة يقفون عليها في حالة انجماد. السمة الوحيدة المميزة للشيوعيين دون غيرهم هي أنهم يجهدون في تسريع قاطرة التاريخ من أجل الوصول إلى محطتها الأخيرة (الشيوعية) بغير عناء لا لزوم له. هم لا يضيفون شيئاً جديداً للقاطرة سوى أن لديهم خبرة خاصة في تسريع القطار لا يمتلكها غيرهم. خبرتهم تتأتى من اكتشافهم للحقيقة المطلقة التي تحكم الوجود بأجمعه وهي الحركة الديالكتيكية للطبيعة التي لا يفلت منها كائن ما كان، وتتمثل في المجتمعات ما قبل الشيوعية بالصراع الطبقي. هذه الحقيقة المطلقة التي اكتشفها ماركس تحكم العالم بكل موجوداته ومنها الشيوعيون وغير الشيوعيين، لكن الشيوعيين يمهرون في تحديد أعمالهم وفقاً لقانون الحركة في الطبيعة، القانون الذي لا يعرفه ولا يعترف به الآخرون. الحركة في الطبيعة، التي هي قانون التغيّر، ليست مبدأً للإنسان أن يأخذ به أو لا يأخذ؛ إنها الحقيقة المطلقة، إنها أصل الوجود بل هي الوجود ذاته. من هنا نقول بثبات لا يتزعزع أن ليس لدى الشيوعيين أية مبادئ أو عقائد كي يمكن وصفهم بالجمود العقائدي. قانون نفي النفي هو من قوانين الحركة في الطبيعة ويقضي بأن الشيء ينفي ذاته وهو ما يحول دون وجود أشياء أو حالات أو مبادئ ثابتة، بل إنها جميعاً صائرة إلى زوال. ولذلك يؤكد الشيوعيون أنهم هم أنفسهم صائرون إلى زوال حيث لن يكون هناك حزب شيوعي في الحياة الشيوعية، ولن يكون هناك بروليتاريا وهي الطبقة التي تقود المسيرة إلى الشيوعية أي أنها تنفي ذاتها. الشيوعيون بلا مبادئ وهذا ميزتهم الفضلى. إنهم بلا عقيدة يتجمدون عندها؛ إنهم مع الحياة المتغيرة باستمرار. لا يمكن وصف من ينفي ذاته بوعي بالجمود العقائدي.

كل الحركات الأخرى غير الماركسية تعلّق نفسها بمبادئ معروفة وثابتة، ولذلك قلنا أن فكرة الجمود العقائدي لا تتواجد ولا ترد في هذه الحركات التي تؤسس وجودها على الجمود العقائدي، كما أن الرهبان لا يناقشون مسألة وجود الله في معابدهم. فالحركات القومية مثلاً وبمختلف تشعباتها تؤمن أن العصبة القومية هي التي تشد المجتمع إلى بعضه البعض. يزعم هؤلاء القوميون أن عصبتهم القومية خالدة خلود الحياة ولا تخضع لقوانين التطور والتغيّر ولذلك تحدث بعضهم عن الرسالة الخالدة لقوميتهم. يعتقدون أن العبد كان قد إلتزم بالسيد والقن بالاقطاعي والعامل بالرأسمالي بسبب العصبة القومية وليس بسبب الإنتاج الذي هو سبب الحياة مع أن الإنسان لا يعي لونه وجنسه ولغته ولا حتى أهله قبل أن تدب في جسمه الحياة. تقوم حرب أهلية وتطحن الجماعات بعضها البعض الآخر ولا ينفك القوميون عن الحديث عن العصبة القومية. تخضع الشعوب العربية لحكم الأجانب الطغاة المستبدين لألف عام (945 ـ 1917) دون انقطاع ولا يجرح ذلك عصبتهم القومية الخالدة !! تستدعي البورجوازية الفرنسية جيوش ألمانيا لقمع أبناء قوميتها، عمال الكومونة في باريس (1871)، دون أن يتشكك القوميون بالرباط القومي. ومثل ذلك حدث في روسيا (1919) عندما استدعت البورجوازية الروسية جيوش أربع عشرة دولة أجنبية لإبادة البلاشفة الروس. أحزاب عراقية وطنية وشعبية كبيرة استدعت القوات الأميركية "الإمبريالية" لتخليص الشعب العراقي من عصابات البعث القومية العربية دون أن يدعي أي عراقي أن عصابة البعث كانت أهون من القوات الأميركية. وها هي عصابة القوميين البعثيين في سوريا تستدعي اليوم الحرس الثوري الايراني الفاشستي ليشاركها الحرب على الشعب السوري بمختلف طبقاته الاجتماعية والعصبة القومية لا يأتيها الباطل من خلفها ومن بين أيديها!! هذا ليس جموداً عقائدياً فقط، بل هو تدمير للعقل. الرأسماليون في أوروبا الغربية، وهم مؤسسو المفهوم القومي في التاريخ الحديث، استوردوا العمالة الأجنبية الرخيصة من الجنوب لتحل محل العمالة الوطنية وتحيلها إلى البطالة، وبذلك تم بيع الرباط القومي بدريهمات قليلة لتعاني ألمانيا اليوم من تواجد عريض للأتراك يثقل على شبكة الأمن الاجتماعي، مثلما تعاني فرنسا من المغاربة، ودون أن يزعزع كل ذلك عقيدة القوميين بالعصبة القومية وقد امتهنت كل هذا الامتهان. الصفعة القوية التي تصفع وجوه من استوردوا مفهوم العصبة القومية من أوروبا الرأسمالية ومنهم زكي الأرسوزي وساطع الحصري وميشال عفلق هي أن مفهوم العصبة القومية لم يرد إطلاقاً في كل التاريخ العربي، حتى أن مفردة "القومية" لم ترد في القواميس العربية قبل القرن العشرين.

أما المبدأ الإسلامي فجموده يثير ما هو أبلغ من الاستهجان. يدّعي المتأسلمون بأن المجتمع لا يتقدم بفعل قواه الداخلية، أيّاً تكن تلك القوى، بل بفغل قوى من خارج المجتمع يسمونها "الله" !! ـ لكأنهم يقولون أن الإنسان الذي لا يعرف الله ولا يتعرف عليه محروم من التعقل والقدرة على التخطيط والعمل الهادف !! ينفون دور العقل البشري في تطوير المجتمعات البشرية ويعزون كل الدور إلى "الله" !! كيف لهم أن يفسروا مثل هذا النفي لدور العقل البشري في تطور المجتمع وهم يعتقدون بمثل هذا المعتقد الغريب عن طريق العقل البشري بحكم أنهم من البشر !؟ بل إن العقل البشري هو من قال بوجود الله. وعندما يُواجه هؤلاء المتأسلمون بحقائق دامغة تؤكد أن إلههم لا علاقة له بتطور المجتمعات، ولو كان الأمر كذلك لما عاشت البشرية آلاف السنين في ظلمة النظام العبودي وألف عام في ظل النظام الاقطاعي الظالم وثلاثة قرون في ظل النظام الرأ سمالي الاستغلالي لبني الانسان، عندها يرد هؤلاء المتأسلمون بالقول .. لعلها حكمة الله في أن يفعل ذلك لسبب لا يعلمه إلا هو !! هنا يتخلى المتأسلمون عن عقولهم إذ لا يعلمون، لكن ذلك لن يردعهم عن التقوّل بأنهم يعلمون في أمور مما وراء الطبيعة، يعلمون أن التقدم الاجتماعي يتم فقط بأمر من الله، وأن الحل هو الإسلام !!
هؤلاء المتأسلمون المنافقون يختبئون وراء أستار أربعة عشر قرناً تطمس حقائق تؤكد أن الإسلام هو أسوأ الحلول. لن نشير هنا إلى الحل الاسلامي في إيران وولاية الفقيه حيث في ظل هذه الولاية، ولاية الجهول وليس الفقيه، تضاعف الفقر وتعاطي المخدرات كما الرذيلة وانتشر الإلحاد بين الشباب في الجامعات حتى صار نظام ولاية الفقيه هو أسوأ الأنظمة في المنطقة المحيطة.. ينهض الشعب ثائراً ضد نظام الملالي، ولاة الفقيه، بين الفينة والأخرى فتواجهه عصابات الملالي الفاشية بالحديد والنار وبالإعدامات بالجملة ــ نستغني عن مثل هذه الاشارة الدامغة لنذهب مباشرة إلى إسلام الخلافة "الراشدة" القرشية التي ورثت نبي الاسلام محمد. نهض محمد نهوضاً ثورياً ضد تجار قريش منادياً بحقوق اليتامى والفقراء والمساكين في الحياة وقد انتشر بينهم الموت بفعل الإملاق الشديد، وقال محمد إن الله يأمر بالعدل، لكن ما إن توفي حتى ورثه زعماء قريش وصاح كبيرهم أبو بكر .. " من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات " وهو ما يذكرنا هنا بقول أنور السادات وقد خلف القائد العربي الكبير جمال عبد الناصر، إذ قال بكل نكران الحرامي.. خلّوا عبد الناصر لسبيله فعبد الناصر قد مات ولا تجوز على روحه إلا الرحمة. كان انقلاب زعماء قريش على النبي أسوأ من انقلاب أنور السادات على عبد الناصر. النظام الإسلامي زمن الخلافة "الراشدة" كان أسوأ نظام عرف على وجه الأرض. النظام الروماني السابق له كان يجبي أعشار المنتوجات عبر ملوك لممالك مستقة نسبياً، وكان لروما قانون يتقدم تنفيذه على نفوذ الإمبراطور، بل إن خلافة الإمبراطور نفسه كانت عابرة للقبائل والإثنيات. بالمقابل كانت الخلافة الإسلامية محصورة في قبيلة قريش، وتعيين الخليفة بالمبايعة إنما كان شكلياً لا قيمة له وقصة مبايعة يزيد بن معاوية على حد السيف مشهورة في التاريخ الاسلامي، وعندما رفض عبدالله بن الزبير مبايعة عبد الملك بن مروان أرسل هذا الأخير جيشه بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي وحاصر بن الزبير في الكعبة وهدم الكعبة بالمنجنيق ومثل بجثمان بن الزبير شر تمثيل. ثم صارت الخلافة بالوراثة. وكانت البلاد المفتوحة تُوَزع وما عليها من سكان بين الصحابة وأمراء الجيش ليجبي هؤلاء لأنفسهم ليس الأعشار فقط بل والنساء والغلمان كعبيد وإماء، وثمة وثيقة تاريخية تسجل أن والي مصر فرض على السلطات في بلاد النوبة لدى فتحها أن يقدموا له سنوياً مائة رجلاً وإمرأة حسني الخلقة كعبيد يتصرف بهم كيف يشاء. ولدى فتح العراق أرسل سعد بن أبي وقاص رسالة للخليفة عمر يقول فيها أنه تم تقسيم أرض السواد (العراق) بعلوجها على أمراء الجيش والعساكر. ولدى قراءة الخليفة عمر تلك الرسالة استشاط غضبا وصاح .. " وماذا يبقى لحماية الثغور؟ " فكان أن رد عليه نقيب الصحابة عبد الرحمن بن عوف وكان حاضراً .. لماذا الغضب يا أمير المؤمنين فإنما هذا هو ما أفاء الله به عليهم !! ـ عمر يود أموالاً كي يفتح بلداناً أخرى يوزعها بعلوجها على أسباط قريش، وبن عوف يعتبر غير العرب المسلمين وأراضيهم عطايا من الله للقرشيين !! عمر الفاروق هذا أقسم إن طال به العمر " ليأتينّ الراعي ما لم يعرق به جبينه " !! الصحابي عبدالله بن الزبير امتلك ثلاثة قصور في البصرة والمدينة والاسكندرية فيها ألف عبد وأمة واصطبلات فيها مئات الخيول، والصحابي عبيدالله بن طلحة كانت حصته ولاية في جنوب الأردن تدر عليه مائة ألف ديناراً سنوياً وأخرى أكبر منها في أرض السواد (العراق) يجبي منها مبلغاً أكبر، ونقيب الصحابة عبد الرحمن بن عوف تزوج ثلاث عشرة امرأة عدى مئات الإماء ملك يمينه وعشرات الألوف من الإبل ورؤوس الماشية، وعند وفاته قطعوا الذهب في خزائنه يالفؤوس وجعلوه في كومة أعلى من مجلس الرجال. هؤلاء الصحابة الذين هاجروا مع النبي فقراء حفاة عراة سطوا على ثروات الشعوب الخاضعة لسلطانهم وغدوا أغنى من كبار أغنياء روما والقسطنطينية. هكذا هو النظام الاسلامي الذي يعدوننا به!!

الدولة ما قبل الدولة الحديثة من مثل دولة الخلافة الاسلامية كانت دولة ريعية بطريركية علاقتها بمواطنيها علاقة أحادية باتجاه واحد حيث المواطن مسؤول تجاه الدولة، تصادرعشر إنتاجه وتجنده مكرهاً للحرب متى تشاء، بينما الدولة ليست مسؤولة تجاهه بأي شيء. هكذا كان النظام الاسلامي وغير الاسلامي في الدولة قبل الحديثة. الدولة الحديثة بدأت بالتشكل مع بداية تشكل نظام الانتاج الرأسمالي إذ فيه تلعب البروليتاريا دوراً كبيراً في الانتاج وهو المصدر الوحيد لأرباح الرأسماليين، ولذك تعنى الطبقة الرأسمالية بتطوير البروليتاريا كقوى انتاج. علاقة العامل بالدولة الرأسمالية علاقة باتجاهين. العامل مسؤؤل عن الإنتاج والدولة مسؤولة عن تطوير قدراته. أما الدولة ما قبل الرأسمالية فليست مسؤولة عن أي شيء تجاه المنتجين الفعليين. لذلك على المتأسلمين أن ينتصحوا بأن يكفوا عن تبشيرنا بالدولة الإسلامية.

ما يلزم التوقف عنده في هذا السياق هو الفصل التام بين العقيدة والهدف في الإيديولوجيات المعروفة، القومية والاسلامية وحتى الليبرالية. يتحدث المؤدلجون بلغة طنانة فخيمة إلا أنها في الحقيقة خطابات جوفاء وبلا مدلولات على أرض الواقع. كان الخطاب القومي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يدل على إغلاق السوق المحلية لحماية الإنتاج الرأسمالي القومي وبناء الحاجز الجمركي حول أطراف خطوط الانتاج المتشابكة والتي تجمع الجماعات البشرية إلى بعضها البعض. وبذلك توحدت أمم وتشكلت في أوروبا خارطة فسيفسائية من الدول القومية. أما بعد أن تسلحت الرأسمالية الأوروبية بأنياب الامبريالية القاطعة غدا الحراك البورجوازي في البلدان المستعمرة والتابعة كما لو أنه حمل كاذب بالمشروع القومي لا ينتهي بولادة حقيقية. مثل ذلك كان حراك البورجوازية الشامية بقيادة الشريف حسين بن علي 1916، والبورجوازية الصينية بقيادة الدكتور صن يات سن 1912، والبورجوازية الهندية بقيادة المهاتما غاندي 1915، والبورجوازية المصرية بقيادة سعد زغلول 1919. في العام 1921 خاطب لينين زعماء جركة التحرر الوطني مؤكداً لهم أن طموحات شعوبهم الوطنية المشروعة لن تتحقق إلا من خلال التعاون مع الاتحاد السوفياتي. وفعلاً لم تستطع أية حركة وطنية أن تحقق التحرر من ربقة الامبريالية قبل خروج الاتحاد السوفياتي من الحرب العالمية الثانية كأقوى قوة في الأرض. عشرات الدول تحررت تحت المظلة السوفياتية ما بين 1946 ـ 1972 وهو ما تسبب بانهيار النظام الرأسمالي في العالم في السبعينيات. لكن ما معنى التحرر القومي تحت المظلة السوفياتية؟ ذلك يعني حتماً أن تفقد البورجوازية الوطنية مشروعها الرأسمالي الذي تلبّس لبوس القومية، وهو ما يعني بالتالي أن خطابها القومي الطنان كان منذ البداية أجوف وبلا مدلول حقيقي. أي مشروع تنموي تحت المظلة السوفياتي لا بدّ أن يكون اشتراكياً. ولذلك رأينا مشروع ناصر القومي في مصر قد بدأ يتحول تدريجياً إلى الاشتراكية وحذت حذوه دول عديدة.

لئن كان لدى القوميين أوهام بإقامة إقتصاد رأسمالي ثم تلاشت هذه الأوهام لدى تحقيق الاستقلال، فإن المتأسلمين لا يملكون حتى مثل هذا الوهم. هم يعلمون تماماً ن الشريعة الاسلامية لم توصِ بعلاقات إنتاج محددة. وخلال القرون الثلاثة عشر التي توالت فيها الدول المتسمة بالأسلمة (632 ـ 1917) ـ ولم تكن عربية طيلة القرون العشرة الأخيرة ـ استمر نمط الإنتاج فيها ذات النمط في إطار الاقتصاد البطريركي الريعي ذي العلاقة الأحادية التي لا تلتزم فيه الدولة تجاه مواطنيها بشيء. طبعاً المتأسلمون اليوم لا يقبلون بمثل هذا النمط من الإقتصاد لكنهم لم يحددوا أي نمط من الاقتصاد سيبنون بديلاً عنه، كما لا يذكرون في هذا السياق سوى التجارة التي هي حقيقة ليست من الاقتصاد بل من اللصوصية كما وصفها الرئيس الأميركي بنيامين فرانكلن. ألا يحدد المتأسلمون نمط الاقتصاد المقتضى في أسلمة الدولة فذلك لا يعني غير الإبقاء على الأنماط القديمة والشعب حينذاك لن يكون بحاجة إلى مشروعهم. الأسلمة لا تملك مشروعاً تنموياً محدد المعالم وهي لذلك خطابات فارغة لا مدلولات لها.

الليبراليون، وهم يدّعون زوراً بأنهم متحررون من الأدلجة، يشبهون إلى حد كبير المتأسلمين إذ يفصلون بين البنية السياسية والبنية الاقتصادية. بتعالٍ أجوف يفاخرون بالبنية السياسية الليبرالية كونها ديموقراطية وتعددية، تضمن تداول السلطة وحقوق الإنسان، لكنهم وكما المتأسلمين قلّما يقولون كلمة عن اقتصادهم الليبرالي. لعلهم يوافقون في الغالب على أن البنبة السياسية في المجتمع إنما هي انعكاس أمين لبنيته الاقتصادية. ولذلك فالسياسة الليبرالية تقوم فقط على الإقتصاد الليبرالي الموصوف عادة باقتصاد السوق. لكن كيف يضمن هؤلاء الليبراليون أن اقتصاد السوق اقتصاداً ثابتاً لا يتطور ولا يتغيّر؟ يضطرون إلى الموافقة أحياناً على أن الاقتصاد الليبرالي، اقتصاد السوق، يتطور متناسين عن قصد أن فطرة التطور تؤدي حتماً إلى التغير. لذلك يتحتم على أولئك الليبراليين أن يبينوا طبيعة التغير لاقتصاد السوق، كيف ومتى سيحدث ولماذا لا يترافق تغيره مع تغير البنية السياسية الليبرالية؟؟ ما يثير السخرية حقاً هو أن الليبراليين يتحدثون عالياً اليوم عن سقوط الإيديولوجيات وهم يخصون الماركسية بهذا السقوط !! وقالت العرب .. " رمتني بدائها وانسلت ! ". الليبراليون لا يقلون عن المتأسلمين أدلجة.
ما يلزم تأكيده بهذا الخصوص قبل طي الموضوع هو أن ما يسمى باقتصاد السوق لم يعمر أكثر من بضعة عقود بعد تكامل بناء النظام الرأسمالي في منتصف القرن التاسع عشر، وأنه انتهى تاريخياً ولن يعود مع تكامل مرحلة الإمبريالية وما رافقها من تمركز لرأس المال. لو أن اقتصاد السوق ما زال عاملاً في الدول الرأسمالية سابقاً لما انتهت هذه الدول لأن ترزح اليوم تحت ديون فلكية لا تقوى على حملها. البنى السياسية في هذه الدول (دولة الرفاه) تتواءم فقط مع الاقتصادات السالبة، اقتصادات الخدمات التي لا تصنع الثروة. مع انهيار البنى الاقتصادية في هذه الدول ستنهار البنى السياسية وستغدو الليبرالية الموصوفة أثراً بعد عين.

www.fuadnimri.yolasite.com



#فؤاد_النمري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا يغير المثقفون قناعتهم
- الساقطون الهاربون من انهيار مشروع لينين
- لينين باقٍ في التاريخ
- الإسلام كما القومية لا يمتلكان فكراً
- رسالة إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني
- شبح الشيوعية لم يعد يحوم في السماء
- عن أي يسار يكتب كتبة اليسار !؟
- مواجهة مع أحد المرتدين
- نهاية إقتصاد السوق
- رفيقنا الشيوعي الأميز علي الأسدي
- ليست الأخطاء هي التي أفشلت الاشتراكية
- العمل الشيوعي في عالم خارج التاريخ
- في نقد الإشتراكية السوفياتية
- من الديموقراطية إلى الشيوعية
- خيانة الاشتراكية وانهيار الإتحاد السوفياتي
- دور النقد في انهيار الرأسمالية
- المثقفون وسقوط التاريخ
- اللغو البغو تلغيه وقائع التاريخ
- نذر الكارثة الإقتصادية تقرع طبولها
- الإفساد بالأدلجة


المزيد.....




- ??کخراوکردن و ي?کگرتووکردني خ?باتي چيناي?تي کر?کاران ئ?رکي ه ...
- عاش الأول من أيار يوم التضامن الطبقي للعمال
- اندلاع اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل أبيب ...
- الولايات المتحدة: اعتقال مئة من المتظاهرين المؤيدين للفلسطين ...
- اعتقال الشرطة الأمريكية متظاهرين في جامعة كولومبيا يؤجج الاح ...
- الحزب الشيوعي العراقي: معا لتمكين الطبقة العاملة من أداء دو ...
- -إكس- تعلّق حساب حفيد مانديلا بعد تصريحات مؤيدة لأسطول الحري ...
- انتشار التعبئة الطلابية ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية
- بيلوسي للطلبة المتظاهرين: انتقدوا إسرائيل كما شئتم لكن لا تن ...
- فرنسا: القضاء يوجه اتهامات لسبعة أكراد للاشتباه بتمويلهم حزب ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فؤاد النمري - الجمود العقائدي